بقلم - انتصار خصخوصي
في صباح يوم الإثنين14 أفريل 2025، لم يكن يوسف، تلميذ البكالوريا شعبة علوم تقنية، يتوقّع أن خطواته السريعة نحو بوابة المعهد ستكون فاصلة بين الحياة والموت.
“سبقتهم بخطوات… لأنني شخص سريعٌ في المشي, لحظة تجاوزي سور المعهد سمعتُ صوتًا قويًا مختلطًا بالصراخ، ظننت أن شجارًا وقع مع أصدقائي… هرعت إليهم، وبمجرد التفافي رأيت الطوب يملأ الساحة. لقد غطّى أصدقائي، ولم أعد أراهم”، هكذا استرجع يوسف سمحون، بصوت راجف، مشهد الحادثة التي أودت بحياة ثلاثة من زملائه بعد سقوط أحد أسوار المعهد الثانوي المزونة.
تقول مريم، شقيقة الضحية “محمد صالح غانمي” وتلميذة بالمعهد نفسه: “قاعات الدراسة كانت آيلة للسقوط. أغلقت فقط بعد الحادثة بأيام… السور الذي انهار كان، من أكثر الأجزاء تماسكا في المعهد”.
في تاريخ ليس ببعيد و تحديدا يوم الأربعاء المرافق للثاني و العشرين من شهر أفريل شهدت ولاية سيدي بوزيد حادثة جديدة تمثلت في سقوط جدار حامل لحنفيات قُرب المجموعة الصحية للمدرسة الابتدائية “الصوالحية” التابعة لمعتمدية سوق الجديد بالولاية , الحادثة لم تسفر عن وفيات لكنها شهدت إصابة تلميذين تم نقلهما الي المستشفي أين تم تقديم الإسعافات إليهما .
معهد المزونة و المدرسة الإبتدائية الصوالحية ليست سوي مؤسستين من سلسلة المؤسسات التربوية التي التي تعاني من مشاكل في بنيتها التحتية سواء على مستوي التصدعات و التشققات في القاعات و الأسوار و هذا ما تكشف الصور التي تحصلنا عليها و أيضا غياب للمرافق الصحية و عدم وجود ملاعب رياضية و غيرها من المشاكل المتعددة.
يكشف هذا التحقيق الإستقصائي عن تقاعس المندوبية الجهوية للتربية و التعليم بولاية سيدي بوزيد في الاستجابة لمطالب مجموعة من المؤسسات التربوية على غرار معهد المزونة و مؤسستين أخرين استطعنا الحصول على مطالبهم و أكد لنا مديرو مؤسسات أخرى انهم أرسلو مطالب للمندوبية دون أي رد لكن لم يقدمو لنا سوي صور توثق حالة المؤسسسة خوفا من الملاحقة. و يساهم هذا التقاعس في الإستجابة للمطالب في تعريض حياة الإطار التربوي و التلاميذ الي الخطر و هذا ما سنكشفه في تحقيقنا.
بنية تحتية مهترئة ... و ظروف عمل و دراسة لا ترقي للمطلوب
مدرسة “بوشمال” التابعة لمعتمدية سوق الجديد من ولاية سيدي بوزيد , تضم هذه الأخير ما يقارب 200 تلميذ وفق تعبير محمد أحد المعلمين فيها , تشهد هذه المدرسة حالة صعبة جدا , حائط المرافق الصحية متصدع تشققات كبيرة جدا , أبواب و شبابيك مكسرة , القاعات بدورها متشققة .
يقول محمد في هذا السياق ” القاعة التي أدرّس فيها شبابيكها مكسّرة، وهذه الحالة ليست استثناء بل تنسحب على غالبية القاعات. في إحدى المرات، نزلت كميات كبيرة من الأمطار، فتسرّب الماء إلى الداخل عبر النوافذ المهترئة. اضطررت إلى لصق ورق كرتون على الجزء المكسر للتخفيف من تسرب المياه… ولا زلنا ننتظر تدخلًا لصيانته”
تشهد العديد من المؤسسات التربوية بولاية سيدي بوزيد مشاكل عدة فعلى غرار مدرسة بوشمال هناك مؤسسات اخري استطعنا الحصول على صور تؤكد بنيتها التحتية .
تقول سامية ساسي النائبة بالبرلمان عن معتمدية سوق الجديد اثر مقابلة لنا معها حدثت أكثر من مرة في منابر عامة عن خطورة الوضع، فعدد المؤسسات التربوية في سيدي بوزيد التي تُعد في حالة جيدة قليل جدًا. البقية تتراوح بين المتدهور والخطر، كما هو حال مدرسة بوشمال، التي تقع في منطقة ريفية يصعب الوصول إليها في موسم الأمطار، حيث تغمر المياه الساحة وتتحول الأرض إلى مستنقع من الطين، لا يستطيع التلاميذ الدخول أو الخروج .”

لا توجد إحصائيات رسمية متاحة عن عدد المؤسسات التربوية القديمة في الولاية، لكن شهادات عدة من مديري مدارس ونواب تشير إلى أن أغلب المدارس قديمة وتعاني من التدهور. النائب بالبرلمان الحبيب الخوذي ذكر مدرسة “2 مارس 1934” في معتمدية المزونة كمثال على مدرسة تعاني من مشاكل في بنيتها، مثل حفر كبيرة في سقوف القاعات. وهو ما وثقناه بالصور .

” أواجه مشكلة كبيرة في القدوم و إيصال ابنتي فكما ترون المدرسة تقع في منطقة ريفية بعيدة يتطلب منا الأمر التنقل منذ الصباح الباكر إلي هذه المدرسة رغم ما تعانيه من مشاكل لكم ماذا سنفعل ليس باليد حيلة ” هكذا قالت لنا فاطمة(اسم مستعار) احدي الوليات قبل أن تتركنا و تذهب .
أن مشكلة المؤسسات التربوية لا تقتصر فقط على بنيتها التحتية فحتي النقل المدرسي شبه غائب و هو ما أكه لنا حبيب الخوذي ” طرحنا العديد من هذه المواضيع لوزير التربية و أخذنا فقط وعودا ..”
تقاعس جهوي
وثائق إدارية حصل عليها فريق “في العمق”، مرفقة بشهادات ميدانية، تؤكد وجود سلسلة من المطالب الرسمية الموجهة إلى المندوبية الجهوية للتربية، تنبّه إلى خطورة الوضع في عدد من المؤسسات، وتطالب بالتدخل العاجل لصيانة القاعات والأسوار والمرافق الصحية. لكن هذه المطالب، بحسب مصادر مطّلعة، بقيت حبيسة الرفوف دون أي تفاعل يُذكر.


و هو ما يأكده رئيس المجلس المحلي بسيدي بوزيد صابر العبودلي، بقوله: “أضمن لك أن كل مديري المؤسسات التربوية بالجهة أرسلوا مراسلات مسترسلة للمندوبية الجهوية، تحذر من حالة البنية التحتية، لكن دون أي رد فعلي ملموس، وكأن حياة التلاميذ لا تهم أحدًا”.
بعد حادثة معهد المزونة، التي راح ضحيتها ثلاثة تلاميذ، تم تحميل مدير المعهد “محمد الكثيري” مسؤولية ما حصل وتم إيقافه تحفظيًا عن العمل، رغم أنه، حسب وثائق بحوزتنا، وجّه أكثر من مراسلة إلى المصالح المعنية بالمندوبية يُنبه فيها إلى وضعية السور المتداعي وعدد من القاعات الأخرى داخل المؤسسة.

في ذات السياق أكد “على الجد” مرب و عضو الفرع الجهوي للرابط التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان ل “في العمق” “محمد الكثيري شخص متفاني في عمله فعل ما يقع على عاتقه , راسل السلطات الجهوية و لم نتلقي منهم أي رد, لم نتوقع ما حصل .”
ولم تقتصر المراسلات على معهد المزونة فحسب. فمعهد جلمة، من جهة أخرى، يعاني من أوضاع مشابهة. مديره، الجمعي القنيشي، صرّح ل”في العمق” قائلاً: “لا توجد قاعة واحدة سليمة تمامًا. قاعة الأساتذة هي الأفضل، رغم التصدعات الظاهرة فيها… الوضع حرج ونحن نخشى أن نشهد الحادثة القادمة في أي لحظة”.
وفق المراسلات التي تحصلنا عليها تبين أن المدير الأسبق للمعهد راسل منذ 2019 السلطات الجهوية
لكن لم يتم التدخل وفق ماأكده المدير الحالي الجمعي.

و وفق القنيشي فإن المندوب الجهوي قد عاين حالة المدرسة ما قبل حادثة معهد المزونة وقد قدم وعودا وفق تعبيره و بعد حادثة معهد المزونة راسل الأخير المندوبية و حتي تاريخ كتابة التحقيق لم تتم صيانة المعهد و لم يتم الإستجابة

من الجدير بالذكر أنه بعد حادثة معهد المزونة نشرت المندوبية الجهوية للتربية بولاية سيدي بوزيد منشورا مفاده أنه يجب على مديري المدارس أن يعاينو حالة مؤسساتهم التربوية , الأمر الذي أثار استنكار العديد من مديري المؤسسات التربوية و رواد مواقع التوصل الإجتماعي

وبينما تواصلت مطالب الإنقاذ والصيانة من المؤسسات، اختارت المندوبية الجهوية الصمت. فقد حاول فريق “في العمق” الاتصال بالمندوب الجهوي الحالي، مراد الزواغي، مباشرة بعد وقوع الحادثة، دون أن نتلقى أي رد رسمي حتى تاريخ نشر التحقيق. وفي المقابل، تم لاحقًا إعفاء الزواغي و إعادة تعيين المندوب السابق منصف القاسمي على رأس الإدارة، دون توضيح رسمي لأسباب التغيير.
الحق في التعليم بين المنشود و الموجود
ينظم الأمر عدد 2205 لسنة 2010 المؤرخ في 6 سبتمبر 2010 المندوبيات الجهوية للتربية من حيث الهيكلة والوظائف، ويحدد في فصله الثاني أن من مهام هذه المندوبيات الإشراف على المؤسسات التربوية ومتابعة الشؤون الإدارية والبيداغوجية والمالية على مستوى الجهة. أما الفصل السادس فينص على أن المندوب الجهوي يمثل وزارة التربية في الجهة ويشرف على تقييم وضعية المؤسسات، بما في ذلك البنية التحتية، ويتولى تنسيق البرامج والمشاريع ومتابعة شكاوى المواطنين. كما يضبط الفصل التاسع دور الكتابة العامة للمندوبية، من خلال إعداد تقارير فنية دورية حول وضعية البنية الأساسية للمؤسسات التربوية، واقتراح أشغال الصيانة بالتنسيق مع المصالح المختصة. هذه الفصول تحدد بوضوح الإطار القانوني لمسؤوليات المندوبية في علاقة بمتابعة البنية التحتية وصيانتها.
في ذات السياق، أوضحت المختصة في القانون الإداري” اية غزواني “أن هذا الأمر لا يكتفي فقط بتحديد المسؤوليات الإدارية، بل يؤسس لآلية متابعة منتظمة ومنهجية للبنية التحتية، ما يعني أن المندوبيات الجهوية ملزمة ليس فقط بالتقييم، بل أيضاً بالتصرف العملي عبر اقتراح وتنفيذ خطط صيانة دورية. كما أكد أن وجود هذه النصوص القانونية يفرض على الجهات المعنية التنسيق المستمر مع مصالح الصيانة والهندسة لضمان استمرارية صلاحية المؤسسات التربوية وسلامتها، ما يُعد جزءاً من الحق الأساسي في تعليم ملائم وآمن. وأضافت المختصة أن التحدي الحقيقي يكمن في التنفيذ الفعلي لهذه المهام، خصوصاً في المناطق النائية أو ذات الموارد المحدودة، حيث تظل حاجة المتابعة والإشراف أكبر، وهو ما يتطلب من الجهات المعنية تعزيز آليات الرقابة وتوفير الموارد الكافية.
و في سؤالنا عن كيف تتم صيانة المؤسسات أضافت “غزواني ” أن المندوبيات الجهوية مكلفة بتقييم حالة المؤسسات بشكل دوري، ويعدّون تقارير فنية مفصلة عن كل أعطاب البنية التحتية، بالتنسيق مع مصالح الصيانة والهندسة. هذه التقارير تُرسل للجهات المعنية لتحديد الأولويات وتخصيص الميزانيات اللازمة. عملية الصيانة تُنفّذ حسب خطة واضحة مع متابعة مستمرة لضمان الجودة وسلامة المباني و في الحالات الطارئة، هناك تدخلات سريعة لإصلاح الأعطاب.
رغم الأضرار الجسيمة التي تتعرض لها المؤسسات التربوية والتلاميذ والأطر التعليمية، رفضت المندوبية الجهوية للتربية بولاية سيدي بوزيد الإدلاء بأي تصريح رسمي يوضح موقفها من هذه الأزمة، مما يعكس تقاعساً واضحاً في تحمل المسؤولية.
هذه الوضعية تستدعي تدخلات فورية وحقيقية من الجهات المعنية لضمان سلامة التلاميذ والأساتذة، وتوفير بيئة تعليمية لائقة وآمنة، بعيداً عن المماطلة والتجاهل الذي يعرض مستقبل التعليم للخطر.